لا يزال البعض من أصحاب النبيّ أمثال سلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار لم يبايعوا الحاكم بعد ، وكذلك العبّاس عمّ النبيّ لم يحضر البيعة .
وكانوا يتردّدون على بيت عليّ ، مُعلنين عن ثباتهم على بيعتهم لعليّ في غدير خمّ بأمر الله ورسوله في ذلك اليوم المشهود.
والآن، يجب العمل على جلب هؤلاء للبيعة لأبي بكر بأيّ أُسلوب كان .
وتبرز عندهم شخصية العبّاس عمّ النبيّ الأهمّ من بين هؤلاء ، إذا ما استطاعوا كسبه إلى جانبهم فستُحَلّ حتماً الكثير من مشاكلهم .
نعم ، هو كبير بني هاشم ، وجذبه للبيعة يُعَدّ امتيازاً كبيراً لأبي بكر .
يسدل الليل أذياله ، انظر ، يخرج أبو بكر ملتحفاً سواد الليل يرافقه البعض من المسلمين .
رفيقي في هذا السفر ، هل توافقني كي نصحبهم لنرى وُجهتَهم إلى أين في هذه الليلة الظلماء ؟
انظر ، إنّهم يتوجّهون نحو محلّة بني هاشم ، يطرقون باب العبّاس عمّ النبيّ ، يفتح لهم العبّاس ، فيدخل الخليفة ومُرافقوه .
ـ هل أنتم من رفقاء الخليفة أيضاً ؟
ـ كلاّ ! أنا كاتب ، وهذا صديقي قارئ كتابي ، جئنا نستطلع ماذا يريد الخليفة منك .
ـ تفضّلا .
ندخل البيت ونجلس في إحدى زوايا الغرفة ، ناظرين مستمعين.
انظر ، العبّاس يفكّر داخل نفسه ، ماذا يريد الخليفة منه في هذا الوقت المتأخّر من الليل يا تُرى؟ !
يمسح أبو بكر على لحيته البيضاء ويبتدئ بالكلام، فيما أنا أُخرج قلمي وأوراقي وأكتب ما يقول :
ـ إن الله بعث محمّداً نبيّاً ، وللمؤمنين وليّاً ، فمنّ عليهم بكونه بين أظهرهم ، حتّى اختار له ما عنده ، فخلّى على الناس أموراً ليختاروا لأنفسهم في مصلحتهم مشفقين ، فاختاروني عليهم والياً ، ولأُمورهم راعياً ، فوُلِيّتُ ذلك، وما أخاف بعون الله وتسديده وهناً ولا حيرةً ولا جبناً ، وما توفيقي إلاّ بالله، عليه توكّلت وإليه أُنيب ، وما زال يبلغني عن طاعن يطعن بخلاف ما اجتمعَتْ عليه عامّة المسلمين ويتّخذونكم لحافاً ، فإمّا دخلتم فيما دخل فيه العامّة أو دفعتموهم عمّا مالوا إليه ، وقد جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيباً يكون لك ولِعَقِبك من بعدك، إذ كنتَ عمَّ رسول الله ، وإن كان الناس قد رأوا مكانك ومكان أصحابك فعدلوا الأمر عنكم !
[71] يسكت الجميع بانتظار سماع ردّ العبّاس ماذا سيكون!
هل سيتخلّى عن عليّ طمعاً بما أطمعوه من الرئاسة والسلطة ؟!
يغتنم عمر لحظات الصمت فينبري قائلاً : يا عبّاس ، إنّا لم نأتكم لحاجة إليكم ، ولكن كرهاً أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم ، فيتفاقم الخَطْب بكم وبهم
[72] لحظات حسّاسة ومصيرية ، هل سيقبل العبّاس كلام هؤلاء ؟
لم يَذُق أنصار الخليفة طعم النوم في هذه الليلة ، فلقد داروا على بيوت كبار المدينة مطمعين إيّاهم بالمال والمنصب .
هل سيستطيعون في هذه الليلة إجراء معاملة شراء موقف العبّاس مقابل السلطة والحكومة ؟
يسكت الجميع كأنّ على رؤوسهم الطير ، يا ترى ماذا سيكون ردّ العبّاس ؟
حقّاً إذا ما وافق العبّاس على هذا المعاملة الخطيرة فلن تكون سهلة لعليّ ، ماذا سيكون موقف الناس حينما سيجدون أنّ كبير بني هاشم قد تخلّى عن ابن أخيه المظلوم عليّ ؟
يا إلهي، سدّد العبّاس في هذا الامتحان العسير !
قال الجميع ما عندهم ، ولم يبق سوى الاستماع إلى جواب العبّاس .
عندها يكسر العبّاس الصمت فيقول : يا أبا بكر ! إن كان هذا الأمر إنّما وجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنّا كارهين ، إن كنت برسول الله جلست فحقَّنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت ، فنحن متقدّمون فيهم ، وما أبعدَ تسميتَك خليفة رسول الله من قولك : خُلِّيَ على الناس أُمورهم ليختاروا، فاختاروك!
فأمّا ما قلت : إنّك تجعله لي ، فإن كان حقّاً للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه ، وإن كان لنا فلم نرضَ ببعضه دون بعض ، وعلى رَسْلك ! فإنّ رسول الله من شجرة نحن أغصانها، وأنتم جيرانها
[73] ييأس الجميع بعد سماع جواب العبّاس هذا .
جاء الخليفة لكي يعزل العبّاس عن عليّ ، وإذا بجواب العبّاس يخيّب أمله هذا الذي طمح إليه .
انظر ، لا يحير الخليفة جواباً ، بماذا يجيب أمام هذا الرأي القاطع المُفحِم ؟!
لذا يترك الخليفة وأصحابه البيت حتّى بدون توديع أهله !