کتب دکتر مهدی خدامیان آرانی - سایت نابناک

سایت استاد مهدي خداميان آرانی

در حال بارگذاری

    المرحلة الثانية: الشواهد التاريخية

      المرحلة الثانية: الشواهد التاريخية


    قد عرفت في هذا الخبر أنّ أبا بكر ودّ تسعة أُمور:
    الأوّل: عدم كشف بيت فاطمة.
    الثاني: عدم إحراق الفُجاءة السّلَمي.
    الثالث: عدم قبول الخلافة.
    الرابع: قتل الأشعث بن قيس.
    الخامس: الإقامة بذي القَصّة.
    السادس: إرسال عمر بن الخطّاب إلى العراق.
    السابع: السؤال عن الخلافة لمن تكون بعد النبي(صلى الله عليه وآله).
    الثامن: السؤال عن نصيب الأنصار في الخلافة.
    التاسع: السؤال عن مسألة فقهية في الميراث.
    بعد وضوح هذه الأُمور التسعة، حان الآن الوقت المناسب للتحقيق في كلّ واحدة منها، مع ذكر الشواهد التاريخية لها.

    الأمر الأوّل: كشف بيت فاطمة(عليها السلام)

    وجَدَتْ فاطمة الزهراء(عليها السلام) على من كشف بيتها وجداً كبيراً، ولشدّ ما آلمها هذا الكشف، فإنّها كانت تدعو عليه دُبرَ كلّ صلاة صلّتها، وحقّها أن تفعل وهي ترى أنّ من فعل هذا الفعل ليس من البوادي أو القِفار بحيث فاته أن يسمع ما كرّره النبيّ(صلى الله عليه وآله)في المحافل من قوله: "مَن عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بَضعة منّي، هي قلبي وروحيَ التي بين جنبَيّ، فمن آذاها فقد آذاني"[355356357358359360]
    نعم، سمع أبوبكر كلّ هذا وأكثر، ولهذا لا عجب أنّه نَدِم على فعله كما هو مصرّح في هذا الخبر، ولكن بعدما وقع ما وقع ولان حينَ مَناص!
    قال ابن عبد ربّه القرطبي[361]
    "الذين تخلّفوا عن بيعة أبي بكر: عليّ والعبّاس والزبير وسعد بن عُبادة. فأمّا عليّ والعبّاس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتّى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطّاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إِن أبَوا فقاتلْهم.
    فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، فَلِقيتْه فاطمة فقالت: يا بن الخطّاب! أجئتَ لتُحرق دارنا؟!
    قال: نعم! أو تدخلوا فيما دخلَتْ فيه الأُمّة.
    فخرج عليّ حتّى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهتَ إمارتي؟
    فقال: لا، ولكنّي آليت أن لا أرتدي بعد موت رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى أحفظ القرآن، فعليه حَبستُ نفسي"[362]
    وقال النويري في نهاية الإرب:
    "إنّ عليّاً والزبير كانا حين بُويع لأبي بكر يدخلان على فاطمة فيشاورانها في أمرهم، فبلغ ذلك عمر، فدخل عليها فقال: يا بنت رسول الله، ما كان من الخَلق أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما أحد أحبّ إلينا بعده منك، وقد بلغني أنّ هؤلاء النفر يدخلون عليكِ، ولئن بلغني لأفعلنّ ولأفعلنّ!
    ثمّ خرج وجاؤوها، فقالت لهم: إنّ عمر قد جاءني وحلف إن عدتم ليفعلنّ، وأيم الله ليفينّ بها، فانظروا في أمركم، ولا تنظروا إليّ.
    فانصرفوا ولم يرجعوا حتّى بايعوا لأبي بكر، رضي الله عنهم أجمعين"[363]
    وقال ابن قتيبة الدينوري في الإمامة والسياسة:
    "وإنّ أبا بكر رضي الله عنه تفقّد قوماً تخلّفوا عن بيعته عند عليّ كرّم الله وجهه، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار عليّ، فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجُنّ أو لأحرقنّها على مَن فيها.
    فقيل له: يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة.
    فقال: وإن!
    فخرجوا فبايعوا، إلاّ عليّاً فإنّه زعم أنّه قال: حلفت أن لا أخرج ولا أضع ثوبي على عاتقي حتّى أجمع القرآن.
    فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها، فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأَ محضر منكم، تركتم رسول الله(صلى الله عليه وآله) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً.
    فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟
    فقال أبو بكر لقنفذ ـ وهو مولىً له ـ : اذهب فادْعُ لي عليّاً.
    فذهب إلى عليّ، فقال له: ما حاجتك؟ فقال: يدعوك خليفة رسول الله.
    فقال عليّ: لَسريع ما كذبتم على رسول الله.
    فرجع فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلاً، فقال عمر الثانية: لا تُمهلْ هذا المتخلّف عنك بالبيعة.
    فقال أبو بكر رضي الله عنه لقنفذ: عد إليه فقل له: خليفة رسول الله يدعوك لتبايع.
    فجاءه قنفذ فأدّى ما أُمر به، فرفع عليّ صوته فقال: سبحان الله! لقد ادّعى ما ليس له!!
    فرجع قنفذ، فأبلغ الرسالة، فبكى أبو بكر طويلاً. ثمّ قام عمر، فمشى معه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة، فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبتِ يا رسولَ الله، ماذا لَقِينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قَحافة!
    فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع، وأكبادهم تنفطر.
    وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليّاً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فَمَه؟ قالوا: إذاً والله الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك! فقال: إذاً تقتلون عبدَ الله وأخا رسوله، قال عمر: أمّا عبدُ الله فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا.
    وأبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا أُكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.
    فلحق عليّ بقبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) يصيح ويبكي وينادي: يا بن أُمِّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني"[364]
    ويحقّ لنا هنا أن نتساءل: ماذا دهى هذه الأُمّة فنَسِيَت كلّ وصايا نبيّها قبل وفاته بعترته وأهل بيته، وعلى رأسهم عليّ وفاطمة(عليهما السلام)، ففعلوا ما فعلوا، وتجرّؤوا على وصيّه يُهدّدونه بالقتل كأسير لا حول له ولا قوّة، مستنكرين عليه إخوّته للنبيّ(صلى الله عليه وآله)الذي قال فيه في صريح العبارة: "معاشرَ الناس، عليّ أخي في الدنيا والآخرة، ووصيّي وأميني على سرّي وسرّ ربّ العالمين، ووزيري وخليفتي عليكم في حياتي وبعد وفاتي، لا يتقدّمه أحد غيري، وخير ما أُخلف بعدي"[365]
    أو يتجرّؤون على بضعته الزهراء التي طالما كرّر على مسامعهم قوله فيها: "إنّ فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما آذاها"[366367]
    وإلاّ فما هذه الصيحة المدويّة التي انطلقت في سماء المدينة غاضبة من صدر فاطمة منادية: "يا أبتاه!" وليس هناك من يغيث أو ينصر؟!

    الأمر الثاني: إحراق الفُجاءة السّلَمي

    جاء في حوادث التاريخ أنّ شخصاً باسم الفُجاءة السّلَمي دخل على أبي بكر طالباً منه أن يعينه على مقاتلة المرتدّين، ولكنّه قام بعد ذلك بالإغارة على المسلمين وترويعهم، ولمّا أسره أبو بكر حرقه بالنار.
    قال الطبري في تاريخه:
    "قدم على أبي بكر رجل من بني سليم يقال له الفُجاءة، وهو أياس بن عبد الله بن عبد ياليل ابن عميرة بن خفاف، فقال لأبي بكر: إنّي مسلم، وقد أردت جهاد من ارتدّ من الكفّار، فاحملني وأعنّي.
    فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحاً، فخرج يستعرض الناس المسلم والمرتدّ، يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم، ومعه رجل من بني الشريد يقال له نَجبة بن أبي الميثاء.
    فلمّا بلغ أبا بكر خبرُه، كتب إلى طَريفة بن حاجز: إنّ عدوّ الله الفُجاءة أتاني يزعم أنّه مسلم ويسألني أن أقوّيه على من ارتدّ عن الإسلام، فحملتُه وسلّحته، ثمّ انتهى إليَّ من يقين الخبر أنّ عدوّ الله قد استعرض الناس المسلم والمرتدّ، يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم، فسِرْ إليه بمن معك من المسلمين حتّى تقتله أو تأخذه فتأتيني به.
    فسار إليه طَريفة بن حاجز، فلمّا التقى الناس كانت بينهم الرميا بالنبل، فقُتل نَجبة بن أبي الميثاء بسهم رُمي به، فلمّا رأى الفُجاءة من المسلمين الجدّ، قال لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر منّي، أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره.
    فقال له طَريفة: إن كنت صادقاً فضع السلاح وانطلق معي إلى أبي بكر.
    فخرج معه، فلمّا قدما عليه، أمر أبو بكر طَريفة بن حاجز فقال: أُخرجْ به إلى هذا البقيع فحرّقه فيه بالنار.
    فخرج به طَريفة إلى المصلّى، فأوقد له ناراً فقذفة فيها.
    فقال خفاف بن ندبة ـ وهو خفاف بن عمير ـ يذكر الفُجاءة فيما صنع:
    لِمَ يأخذون سلاحَه لقتالهِ/ولَذاكُمُ عند الإله أَثامُ
    لا دِينُهم دِيني ولا أنا فاتنٌ/حتّى يسيرَ إلى الطراة[368369]
    وقال في موضع آخر:
    "إنّ الفُجاءة أياس بن عبد ياليل قَدِم على أبي بكر فقال: أعنّي بسلاح ومُرْني بمن شئت من أهل الردّة، فأعطاه سلاحاً وأمَرَه أمْرَه.
    فخالف أمره إلى المسلمين، فخرج حتّى ينزل بالجواء[370]
    وبلغ ذلك أبا بكر، فأرسل إلى طَريفة بن حاجز يأمره أن يجمع له وأن يسير إليه، وبعث إليه عبد الله بن قيس الجاسي عوناً، ففعل، ثمّ نهضا إليه وطلباه، فجعل يلوذ منهما حتّى لقياه على الجواء، فاقتتلوا، فقُتل نَجبة وهرب الفُجاءة، فلحقه طَريفة فأسره، ثمّ بعث به إلى[371372]
    وقال ابن الأثير:
    "قصّة الفُجاءة: واسمه! ياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عميرة بن خفاف من بني سليم: قاله ابن إسحاق، وقد كان الصدّيق حرق الفُجاءة بالبقيع في المدينة، وكان سببه أنّه قدم عليه فزعم أنّه أسلم، وسأل منه أن يجهّز معه جيشاً يقاتل به أهل الردّة، فجهّز معه جيشاً.
    فلمّا سار جعل لا يمرّ بمسلم ولا مرتدّ إلاّ قتله وأخذ ماله، فلمّا سمع الصدّيق بعث وراءه جيشاً فردّه، فلمّا أمكنه بعث به إلى البقيع، فجُمعت يداه إلى قفاه وأُلقي في النار، فحرقه وهو مقموط"[373]
    ولا ندري من أين استنبط أبو بكر حُكم حرق الفجاءة وإن كان الفجاءة مفسداً في الأرض؟ فإنّ كلّ مسلم يعلم أنّ حكم المفسد في الأرض هو كما جاء في قوله تعالى:(إِنَّمَا جَزَ ؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَـف أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاَْرْضِ ذَ لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).[374]
    هذا ناهيك عن وجود روايات عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) تَنهى عن الإحراق، منها ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): "لا يُعذِّب بالنار إلاّ ربُّ النار"[375376377378379]
    ومن العجب أنّ القاضي الإيجي[380381]
    وتوجيه فعل أبي بكر بهذه الصورة لن يحلّ المشكلة; لأنّ اجتهاده هذا كان في مقابل النصّ، فلا يكون له عذر موجّه عند الله مع وجود النصّ الصريح في حرمة التحريق بالنار، فهذا التوجيه هو قدح بحقّ أبي بكر وحكمه، وكان أَولى بالقاضي وأمثاله الإعراض عن هكذا تبريرات مُغالِطة!

    الأمر الثالث: ترك قبول الخلافة

    إنّ أبا بكر تمنّى قذف أمر الخلافة إلى عنق أحد الرجلين: عمر بن الخطّاب أو أبي عبيدة، إذ كان لهما شأن كبير يوم السقيفة، حيث يذكر المؤرّخون أنّه لمّا تناهى إلى مسامع عمر وأبي بكر وأبي عبيدة اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، أسرعوا نحوها، وأوّل من تكلّم أبو بكر، ولمّا وصل الدور إلى عمر بن الخطّاب اقترح انتخاب أبي بكر للخلافة، ومن ثمّ أحكموا البيعة لأبي بكر بعد كلام وشجار لسنا بصدد ذكره.
    قال الطبري في تاريخه:
    "فبدأ أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: إنّ الله بعث محمّداً رسولاً إلى خلقه وشهيداً على أُمّته; ليعبدوا الله ويوحّدوه، وهم يعبدون من دونه آلهةً شتّى، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخصّ الله المهاجرين الأوّلين من قومه بتصديقه والإيمان به والمواساة له والصبر معه، على شدّة أذى قومهم لهم وتكذيبهم إيّاهم، فهم أوّل من عَبدَ الله في الأرض وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحقّ الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلاّ ظالم.
    وأنتم ـ يا معشرَ الأنصار ـ مَن لا يُنكَر فضلهم في الدين ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصاراً لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلّة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأوّلين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأُمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون[382]
    فقام الحبّاب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار، إملكوا عليكم أمركم، فإنّ الناس في فيئكم وفي ظلّكم، ولن يجترئ مجترىءٌ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلاّ عن رأيكم.
    فقال عمر: هيهات! لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم.
    فقام الحبّاب بن المنذر فقال: يا معشر الأنصار، إملكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبَوا عليكم ما سألتموه فاجلوهم عن هذه البلاد.
    فقال عمر: إذاً يقتلك الله!
    قال: بل إيّاك يقتل!
    فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنّكم أوّل من نصر وآزر، فلا تكونوا أوّل من بدّل وغيّر.
    فقام بشير بن سعد فقال: يا معشر الأنصار، إنّا والله لئن كنّا أولى فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلاّ رضى ربّنا وطاعة نبيّنا والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من الدنيا عرضاً، فإنّ الله وليّ المنّة علينا بذلك، إلاّ أنّ محمّداً(صلى الله عليه وآله) من قريش، وقومه أحقُّ به وأولى.
    فقال أبو بكر: هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيّهما شئتم فبايعوا.
    فقالا: لا والله لا نتولّى هذا الأمر عليك، فإنّك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدّمك أو يتولّى هذا الأمر عليك؟! ابسطْ يدك نبايعْك"[383]
    وهنا حريٌّ بنا أن نقول: إنّ تمنّي أبي بكر قذف هذا الأمر في عنق أحد الرجلين إنّما كان بعد أن انكشف له أنّه إنّما تقمّص أمراً ليس له، لا شرعاً ولا قانوناً، وهذا الأمر لم يكن خافياً عن عمر أيضاً، وهذا ما اعترف به وكشفه بقوله: "كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية، وقى اللهُ شرَّها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه!".
    نعم، وكانا يعرفان أنّه لا ينبغي لنبيٍّ أن يرحل دون وصيٍّ يُوصي إليه، كيف وهو(صلى الله عليه وآله)المصرّح: "ما حقّ أمرئ مسلم له شيءٌ يوصي فيه يبيت ليلتين، إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده"[384]
    وهل يُعقَل أنّ عمر لم يسمع هذا الحديث وسمعه ابنه عبد الله القائل: "ما مرّت علَيَّ ليلة. منذ سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال ذلك، إلاّ وعندي وصيّتي"[385]
    وقد ورد في رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس، بأنّ راعي إبل أو غنم أو قيّم أرض لأيّ أحد، لا يسعهم ترك رعيّتهم هملاً، ورعيّة الناس أشدّ من رعيّة الإبل والغنم[386]
    فلماذا صفحت الأمّة يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالَم عليه بينها؟! ولماذا صُمّت عنه الأسماع وخرست الألسن، وذُهلت الأحلام عنه يوم ذاك، ثمّ حدّث به الناس ونبأته الأُمّة؟
    حاشا النبيّ الأعظم أن يترك أُمّته دون وصيّ، فإنّه(صلى الله عليه وآله) وصّى واستخلف ونصّ على خليفته وبلّغ أُمّته في مناسبات عديدة أشهرها واقعة الغدير الكبرى، غير أنّه أخبر وصيّه من بعده: "إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي"[387388389390]
    وحريّ بنا أن نتساءل أيضاً: لماذا تمنّى أبو بكر قذف الأمر في عنق الرجلين: عمر بن الخطّاب وأبي عبيدة؟ فإن كان ما تقمّصه حقَّه فالحقّ لا يُندم عليه ولا يحقّ له أن يَهبَه لأحد أو يتمنّاه لأحد، وإن كان باطلاً فكلامه ذاك يبطل ادّعاءَه الخلافة من أساسها، فلا تصلح لمن بعده سوى للإمام عليّ(عليه السلام) المنصوص عليه.
    ويا ترى لماذا خصّصهما من جميع الصحابة وفيهم ذوو فضائل لا يبلغ الرجلان مراتبها، وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) المُعترَف بعلمه وسابقته وتقواه وجهاده وطاعته لنبيّه، وجميع المواقف المشهورة، ناهيك عن كونه نفسَ النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله) بنصّ القرآن الكريم، والمطهَّرَ من كلّ رجس بنصّ آية التطهير؟!
    فلِمَ لم يودّ أبو بكر قذف الأمر إليه إن كان صادقاً في ودّه؟
    كلّ هذه الأسئلة وأسئلةٌ وأُخرى غيرها نتركها للقارئ العزيز لكي يبحث عن الإجابة عنها بتفكّر وتحقيق وتمحيص; حتّى يكتشف عمق المأساة التي صحا لها ضمير أبي بكر، ولكن لاتَ حينَ مندم.

    الأمر الرابع: قتل الأشعث بن قيس

    الأشعث بن قيس الذي تمنّى أبو بكر قتله، هو الأشعث بن قيس الكِنْدي، وكان اسمه مَعْدي كَرْب، وكان أبداً أشعث الرأس، فغلب عليه وصفه بذلك، وكان له صحبة مع رسول الله ورواية[391]
    ذكره الذهبي فقال:
    "ارتدّ الأشعث في ناس من كِندة، فحُوصر وأُخذ بالأمان، فأخذ الأمان لسبعين ولم يأخذ لنفسه، فأُتي به الصدّيق، فقال: إنّا قاتلوك، لا أمان لك، فقال: تَمُنُّ علَيَّ وأُسلم؟ ففعل وزوّجه أُخته"[392]
    وقال الطبري في تاريخه:
    "قال أبو بكر: ماذا تراني أصنع بك؟ فإنّك قد فعلتَ ما علمت.
    قال: تَمُنّ علَيَّ فتفكّني من الحديد وتزوّجني أُختك، فإنّي قد راجعت وأسلمت.
    فقال أبو بكر: قد فعلت. فزوّجه أُمّ فروة ابنة أبي قُحافة"[393]
    وقال ابن عساكر:
    "فاخترط سيفه ودخل سوق الإبل، فجعل لا يرى جملاً ولا ناقةً إلاّ عرقبه[394]
    فلمّا فرغ طرح سيفه وقال: وإنّي والله ما كفرت، ولكن زوَّجَني هذا الرجل أُخته، ولو كنّا في بلادنا كانت وليمة غير هذه، يا أهل المدينة كلوا، ويا أصحاب الإبل تعالوا خذوا شرواها.
    فكان ذلك اليوم قد شُبِّه بيوم الأضحى!"[395]
    وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي:
    لَقَد أولَمَ الكِنديُّ يومَ ملاكِهِ/وليمةَ حمّال لِثُقلِ الجرائمِ
    لقد سَلّ سيفاً كان مذْ كان مُغْمَداً/لدى الحرب منها في الطلا والجماجِم
    فأغمَدَه في كلِّ بِكر وسابح/وعِير وبغل في الحشا والقوائمِ
    فقلْ للفتى الكنديّ يومَ لقائِهِ/ذهبتَ بأسنى مجدِ أولادِ آدمِ[396]
    وذكر الذهبي: "كان على ميمنة عليّ يوم صفّين الأشعث"[397]
    وقال ابن عساكر في نقل حوادث صفّين:
    "فصل معاويةَ في تسعين ألفاً، ثمّ سبق معاوية فنزل الفرات، وجاء عليّ وأصحابه، فمنعهم معاوية، فبعث عليّ الأشعثَ بن قيس في ألفين وعلى الماء لمعاوية أبو الأعور السُّلَمي في خمسة آلاف، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وغلب الأشعث على الماء"[398]
    ونقل الذهبي في ترجمة الأشعث بن قيس أنّه قيل له: "خرجتَ مع عليّ؟ فقال: ومَن لك إمامٌ مثل علىّ؟!".
    ثمّ قال: "لمّا تُوفّي الأشعث بن قيس أتاهم الحسن بن عليّ فأمرهم أن يوضّؤوه بالكافور وضوءاً، وكانت بنته تحت الحسن"[399]
    وذكر ابن سعد: "مات بالكوفة والحسن بن عليّ يومئذ بالكوفة حين صالح معاوية، وهو صلّى عليه"[400]
    وذكر ابن حجر: "أنّه مات بالكوفة سنة أربعين أو إحدى وأربعين، وهو ابن ثلاث وستّين"[401]
    وكيف كان، فإنّ أبا بكر تمنّى في نزعه الأخير أنّه قتل الأشعث بن قيس; لأنّه خُيِّل إليه أنّه لا يرى الأشعث شرّاً إلاّ أعان عليه، أو طار إليه!
    وقد ذكر التاريخ أنّ الأشعث كان في زمن الإمام عليّ(عليه السلام) من المدافعين عنه، وقد أبدى شجاعةً وإيثاراً للنفس في حرب صفّين في صفوف الإمام(عليه السلام)، ولمّا مات صلّى عليه الإمام الحسن(عليه السلام).
    وبالنظر إلى كلّ ذلك ألا يمكن أن نحتمل أنّ الأشعث مع كونه زوج أُخت أبي بكر، ولكنّه في الواقع من مخالفي منهج أبي بكر، وكان يميل إلى علي بن أبي طالب(عليه السلام) أكثر؟
    ولو صحّ هذا الاحتمال، فإنّ كلام أبي بكر في تمنّيه قتل الأشعث يعود في الواقع إلى أسباب سياسيّة وشخصيّة أكثر منها دينية!

    الأمر الخامس: الإقامة بذي القَصّة

    بعد رحلة النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) عن هذه الدنيا، أصاب الكثيرَ من الأعراب الشكُّ والتردّد في الاعتقاد بالدين الإسلامي، ومن جانب آخر فإنّ عدّة من المسلمين كانوا قلقين بشأن الخلافة بعد النبيّ، فلم يمض على النبيّ وقتٌ طويل من رحيله ـ بل وقُبَيلَ دفنه ـ حتّى أظهرت قريش نواياها في السيطرة على الخلافة وعلى زعامة العالم العربي من جديد، وهذا الانشغال بأمر الخلافة وشيوع حالة الشكّ في الإسلام، سبّب في ارتداد عدد لا يستهان به من المسلمين عن السلطة الجديدة، ممّا دفع أبا بكر للتفكير جدّياً في مواجهة هذه الظاهرة.
    قال خليفة بن خياط في تاريخه:
    "وارتدّت العرب ومنعوا الزكاة، فقال أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأبي بكر: إقبلْ منهم، فقال: لو منعوني عقالاً ممّا أعطوا رسول الله لَقاتلتُهم.
    فخرج أبو بكر إلى ذي القَصّة لعشر خلون من جمادى الأُولى بعد قدوم أُسامة بن زيد، فنزلها وهو على بريدين وأميال من المدينة من ناحية طريق العراق، واستخلف على المدينة سنان الضَّمري، وعلى حرس أنقاب المدينة عبد الله بن مسعود.
    وأمّر أبو بكر خالد بن الوليد على الجيش، وثابت بن قيس بن شمّاس على الأنصار، وجماع أمر الناس إلى خالد، فسار وسار أبو بكر معه حتّى نزل بذي القَصّة من المدينة على بريدين، فضرب هناك عسكره، وعبّأ جيوشه، وعهد إلى خالد وأمره أن يصمد لطليحة وهو على ماء يقال له قطن، وماء آخر يقال له غمر مرزوق، ثمّ رجع إلى المدينة"[402]
    قال البيهقي في سننه في باب قتال أهل الردّة وما أُصيب في أيديهم من متاع المسلمين:
    "لمّا وجه أبو بكر خالد بن الوليد إلى أهل الردّة، أوعب[403]
    فعبّأ هنالك جيوشه، وعهد إليه عهده، وأمّر على الأنصار ثابت بن قيس بن الشمّاس، وأمرُه إلى خالد، وأمّر خالداً على جماعة الناس من المهاجرين وقبائل العرب.
    ثمّ أمَرَه أن يصمد لطليحة بن خويلد الأسدي، فإذا فرغ منه صمد إلى أرض بني تميم، حتّى يفرغ ممّا بها، وأسرّ ذلك إليه، وأظهر أنّه سيلقى خالداً بمن بقي معه من الناس في ناحية خيبر، وما يريد ذلك، إنّما أظهره مكيدةً، قد كان أوعب مع خالد بالناس.
    فمضى خالد حتّى التقى هو وطليحة في يوم بزاخة[404]
    فكان حين هزّته الحرب يأتي طليحة فيقول: لا أباً لك! هل جاءك جبرئيل بعد؟ فيقول: لا والله، فيقول له: ما ينظره؟ فقد واللهِ جَهِدْنا حتّى جاءه مرّة، فسأله فقال: نعم قد جاءني، فقال: إنّ لك رحىً كرحاه، وحدثاً لا تنساه، فقال: أظنّ قد علم الله أنّه سيكون لك حديث لا تنساه، هذا والله يا بني فزارة كذّاب، فانطلِقُوا لشأنكم"[405]

    الأمر السادس: إرسال عمر بن الخطّاب إلى العراق

    بعد أن تمكّن أبو بكر من القضاء على مشكلة المرتدّين من الأعراب، وكذا القضاء على فتنة المتنبّئين أمثال مسيلمة الكذّاب والأسود العنسي وطليحة بن خويلد[406]
    ولا بأس هنا بالإشارة إلى تفصيل الدينوري في الأخبار الطوال، حيث يقول:
    "كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد وقد كان فرغ من أهل الردّة، أن يسير إلى الحيرة فيحارب فارس ويضمّ إليه المثنّى ومن معه.
    فسار خالد والمثنّى بأصحابهما، حتّى أناخا على الحيرة، وتحصّن أهلها في القصور الثلاثة، ثمّ صالحوه من القصور الثلاثة على مئة ألف درهم يؤدّونها في كلّ عام إلى المسلمين. ثمّ ورد كتاب أبي بكر على خالد مع عبد الرحمن بن جميل الجمحي، يأمره بالشخوص إلى الشام ليمدّ أبا عبيدة بن الجرّاح بمن معه من المسلمين. فمضى وخلّف بالحيرة عمرو بن حزم الأنصاري مع المثنّى.
    وحاصر خالد أهل عين التمر حتّى استنزلهم بغير أمان، فضرب أعناقهم، وسبى ذراريهم، ومن ذلك السبي أبو محمّد بن سيرين وحُمران بن أبان مولى عثمان بن عفّان، وقتل فيها خالدٌ خفيراً كان بها من العرب يُسمّى هلال بن عقبة، وصلبه، وكان من النمر بن قاسط. ومرّ بحيٍّ من بني تغلب والنمر، فأغار عليهم، فقتل وغنم حتّى انتهى إلى الشام"[407]
    والحاصل، أنّ العراق والشام فُتحا بيد خالد بن الوليد، فأبو بكر تمنّى عند موته أنّه أرسل عمر بن الخطّاب إلى العراق وخالد بن الوليد إلى الشام.
    انظر كيف يصف أبو بكر عمر بن الخطّاب وخالد بن الوليد أنّهما يداه اليمين والشمال!
    وحقّاً لنا أن نتساءل: هل يستحقّ خالد بن الوليد أن يكون يد خليفة النبيّ؟![408]

    الأمر السابع: السؤال عن الخلافة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)

    إنّ أبا بكر تمنّى أنّه سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله): لِمَن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحد.
    ومن هذا الكلام يظهر شكّ أبي بكر في أصل الخلافة كونها بالنصّ أو الانتخاب!
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر ما فائدة سؤاله للنبيّ(صلى الله عليه وآله) وهو يعلم أنّه لن يعيد عليه أكثر ممّا أعاده مرّات عديدة في حياته من قوله : "مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"[409410411412413414415416417418419420421422423424425426]
    وعشرات أُخرى غيرها كرّرها النبيّ على مسامع أُمّته ومن بينهم أبو بكر نفسه ، وفي مواضعَ وفترات زمنية عديدة .
    عجباً! مع كلّ هذه النقول التي وصلت إلى مسامع الأجيال ، كيف يغفل عنها شخص يتسنّم منصباً حسّاساً وهو خلافة النبيّ، ثمّ يدّعي غفلته حتّى يودّ لو أنّه سأل النبيّ عن الأمر بعده لمن يؤول ! وعن حقيقة الخلافة الحقّة .
    هذا مع أنّ الشواهد التاريخية الأُخرى لا تؤيّد دعوى جهل الخليفة بكلّ هذه الحقائق ، ولولا خوف الإطالة والخروج عن هدفنا، لقمنا بسرد تلك الشواهد وإطلاع القارئ العزيز على حقيقة عدم جهل أبي بكر بأقوال النبيّ وأحاديثه، خصوصاً ما يرتبط منها بموضوع الإمامة والخلافة من بعده .

    الأمر الثامن: السؤال عن نصيب الأنصار في الخلافة

    يظهر من هذا الكلام أيضاً أنّ أبا بكر كان شاكّاً في أصل الخلافة، هل تختصّ بالمهاجرين فحسب؟ أم يشاركهم فيها الأنصار؟ وعلى أيّ حال فهو في تسنّمه منصب الخلافة غير متيقّن بالرشد من أمره.
    ولا بأس بالإشارة هنا إلى حوادث يوم السقيفة، وكيف أنّ الأنصار كانوا يدّعون أنّ الخلافة من حقّهم، وكيف بذلوا جهوداً لنيل أمنيّتهم!
    قال الطبري في تاريخه:
    "إنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) لمّا قُبض، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا: نولّي هذا الأمر بعد محمّد عليه السلام سعدَ بن عُبادة، وأخرجوا سعداً إليهم وهو مريض، فلمّا اجتمعوا قال لابنه أو بعض بني عمّه: إنّي لا أقدر لشكواي أن أُسمع القومَ كلّهم كلامي، ولكن تلقَّ منّي قولي فأسمِعهموه، فكان يتكلّم ويحفظ الرجل قوله فيرفع صوته فيُسمع أصحابه.
    فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إنّ محمّداً عليه السلام لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمان وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلاّ رجال قليل، وكان ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعرفوا دينه ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيماً عموا به، حتّى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه منكم، وأثقله على عدوّه من غيركم، حتّى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً، وأعطى البعيد المَقادة صاغراً داخراً، حتّى أثخن الله عزّ وجلّ لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفّاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين، استبدّوا بهذا الأمر دون الناس!
    فأجابوه بأجمعهم أن قد وُفّقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نولّيك هذا الأمر، فإنّك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضيّ.
    ثمّ إنّهم ترادّوا الكلام بينهم، فقالوا: فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله الأوّلون ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده؟ فقالت طائفة منهم: فإنّا نقول إذاً منّا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا الأمر أبداً.
    فقال سعد بن عُبَادة حين سمعها: هذا أوّل الوهن"[427]
    نعم، بعد أن أوصل أبو بكر وعمر نفسيهما إلى السقيفة وبذلوا جهوداً كبيرة ومارسوا سياسات الوعيد والتهديد، تغيّرت الأوضاع لغير صالح الأنصار، وأضحى الأنصار ـ الذين سعوا إلى مباغتة المهاجرين ـ في موقف لا يُحسدون عليه، ناهيك عن تردّد أغلبهم وبيعتهم لأبي بكر! هذا بعد أن كانوا قد بايعوا يوم الغدير كلّهم لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) بالولاية والإمامة، وعلى السمع والطاعة، ولكن ما أسرع ما تناسى المسلمون عهدهم الذي عاهدوه لله ورسوله، فأخذوا يتسابقون لبيعة رجل قد ندم على فعله في آخر أيّام حياته!

    الأمر التاسع: السؤال عن مسألة فقهية في الميراث

    ذكرنا أنّ أبا بكر تمنّى لو أنّه سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن ميراث ابنة الأخ والعمّة، كما في أكثر الأسانيد، وذُكر في السند الثامن أنّه تمنّى السؤال عن ميراث العمّة والخالة، كما وذكر السند الخامس عشر أنّه تمنّى السؤال عن ميراث الأخ والعمّ.
    وكيف كان، فإنّ هذا الكلام يدلّ على قصور فهم أبي بكر في الدين، وأنّه كان نابياً في فقهه، لا يعرف أحكام المواريث التي طالما كثر ابتلاؤه بها فيما بعد، فكان يستعين بأمير المؤمنين عليٍّ(عليه السلام) وغيره.
    والشواهد في ذلك كثيرة، لا يسعنا ذكرها كلّها هنا، نكتفي منها بهذه:
    الأوّل: "إنّ أعرابياً أتى أبا بكر فقال: قتلت صيداً وأنا مُحْرم، فما ترى علَيَّ من الجزاء؟ فقال أبو بكر لأُبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيها؟ فقال الأعرابي: أتيتك وأنت خليفة رسول الله أسألك، فإذا أنت تسأل غيرك!!"[428]
    الثاني: "جاءت جدّة إلى أبي بكر الصدّيق تسأله ميراثها، فقال: ما لكِ في كتاب الله، وما علمتُ لكِ في سنّة نبيّ الله شيئاً! فارجعي حتّى أسألنّ الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: رسول الله أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمّد بن مسلمة، فقال مثلما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر"[429]
    الثالث: "إنّ أبا بكر الصدّيق سُئل عن قوله تعالى: (وَ فَـكِهَةً وَ أَبًّا )[430431]
    هذا غيض من فيض، وهو كاف للتدليل على مقدار علم أبي بكر في الكتاب والسنّة وأحكام الشريعة والدين، ولكن يأتي من يتحايل على التاريخ ويغالط في الأخبار فيغالي في علم الرجل ويدّعي أنّه أعلم الخلفاء بعد النبيّ، وأنّه وعمر لم يسألا عليّاً سؤالاً قطّ، وأنّ عليّ بن أبي طالب أخذ العلم من أبي بكر، وأنّ أبا بكر هو من أكابر المجتهدين وأعلم الصحابة على الإطلاق، وأنّهم كانوا يرجعون إليه في أكثر من موضع!![432]
    ودعواهم في ذلك أنّه واظب على صحبة رسول الله(صلى الله عليه وآله) من أوّل البعثة إلى الوفاة[433434]
    وما جاء به ابن سعد عن ابن عمر من أنّه سُئل عمّن كان يفتي في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ فقال: أبو بكر وعمر، ولا أعلم غيرهما[435]
    متناسين أقوال النبي(صلى الله عليه وآله) الكثيرة في إثبات علمية الإمام عليّ(عليه السلام)، وأنّه أعلم الأُمّة من بعده، كما كشفه في قوله لابنته فاطمة الزهراء(عليها السلام): "أما ترضين أنّي زوّجتك أوّل المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً؟!"[436437438439440441]
    وغيرها من أقوال النبيّ(صلى الله عليه وآله) الكثيرة المبثوثة في كتب الفريقين، ومن أراد الاستزادة فليراجع. ناهيك عن اعتراف الصحابة والتابعين، الذين أجمعوا على أنّ أعلم المسلمين عليّ بن أبي طالب، نظراء عائشة وعمر ومعاوية وابن عبّاس وابن مسعود وعدي بن حاتم وسعيد بن المسيب وهشام بن عتبة وعطاء وعبد الله بن حجل و... .
    وناهيك عن قوله(عليه السلام) بذلك بكلّ وثوق واعتزاز حينما يقول: "والله إنّي لأخوه ووليّه وابن عمّه ووارث علمه، فمن أحقّ به منّي؟!"[442]
    فكيف أثبتوا أعلميّةَ أبي بكر على الإمام عليّ(عليه السلام)؟ أمن قوله في الأبّ، أم رأيه في الكلالة والجدّ والجدّتين والخلافة؟
    إنّه الغلوّ لا غير، وإلاّ لو أنصفوا أنفسهم لما عَدَوا أبا بكر نفسه حينما ودّ أنّه سأل وسأل.
    إلى هنا نختتم التحقيق في خبر عبد الرحمن بن عوف الصحيح، آملين من تحقيقنا في الأسانيد الخمسة عشر لهذا الخبر وكذا ما ذكرنا من الشواهد التاريخة، أن نكون قد وفّينا الموضوع حقّه.





















    خاتمة البحث





    بعد أن أتممنا التحقيق في أسانيد ومتون خبر عبدالرحمن بن عوف، سوف نقوم بذكر ثلاثة أحاديث صحيحة تشير إلى جوانب أُخرى من حادثة كشف بيت فاطمة(عليها السلام)، ونؤكّد أنّ جميع رواة هذه الأحاديث هم من الثقات.
    والتدقيق في هذا الكلام الذي وصل إلينا من كتب أهل السنّة أنفسهم، يوضّح لنا حقائق كثيرة، بشرط التجرّد عن العصبية العمياء، وبشرط الاستماع إلى صوت الحقّ والحقيقة وحسب.
    وهدفنا في هذه الخاتمة ذكر بعض الحوادث التي وقعت بعد اجتماع السقيفة في المدينة المنورة، فهلمّ معنا إلى ذلك.


نوشته ها در باره این

نظر شما

.شما در حال ارسال نظر براي از كتاب الصحيح فى كشف بيت فاطمه (س) نوشته مهدى خداميان هستید

‌اگر مي خواهيد مطلب ديگري - كه ربطي به اين ندارد- براي من بفرستيداينجا را كليك كنيد.


عنوان این فیلد نمی تواند خالی باشد.
متن نظر شما
لطفا ایمیل خود را وارد کنید * این فیلد نمی تواند خالی باشد.لطفا ایمیل را صحیح وارد نمایید.
لطفا نام خود را وارد نمایید


ابتدای متن